كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} فِيهِ أَمْرٌ بِتَعْظِيمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَوْقِيرِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ قوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}.
وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا إذَا سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ قالوا فِيهِ قَبْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي كَلَامِهِ ضَرْبٌ مِنْ تَرْكِ الْمَهَابَةِ وَالْجُرْأَةِ، نَهَى اللَّهُ عَنْهُ؛ إذْ كُنَّا مَأْمُورِينَ بِتَعْظِيمِهِ وَتَوْقِيرِهِ وَتَهْيِيبِهِ وقوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} زِيَادَةٌ عَلَى رَفْعِ الصَّوْتِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَنْ تَكُونَ مُخَاطَبَتُنَا لَهُ كَمُخَاطَبَةِ بَعْضِنَا لِبَعْضٍ، بَلْ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ التَّعْظِيمِ تُخَالِفُ بِهِ مُخَاطَبَاتِ النَّاسِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَهُوَ كَقولهِ: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}.
وَقولهُ: {إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَك مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَنَادَوْهُ مِنْ خَارِجِ الْحُجْرَةِ وَقالوا: اُخْرُجْ إلَيْنَا يَا مُحَمَّدُ فَذَمَّهُمْ اللَّهُ تعالى بِذَلِكَ وَهَذِهِ الْآيَاتُ، وَإِنْ كَانَتْ نَازِلَةً فِي تَعْظِيمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِيجَابِ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأُمَّةِ فِيهِ، فَإِنَّهُ تَأْدِيبٌ لَنَا فِيمَنْ يَلْزَمُنَا تَعْظِيمُهُ مِنْ وَالِدٍ وَعَالِمٍ وَنَاسِكٍ وَقَائِمٍ بِأَمْرِ الدِّينِ وَذِي سِنٍّ وَصَلَاحٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ إذْ تَعْظِيمُهُ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنْ التَّعْظِيمِ فِي تَرْكِ رَفْعِ الصَّوْتِ عَلَيْهِ وَتَرْكِ الْجَهْرِ عَلَيْهِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ فِي مِثْلِ حَالِهِ.
وَفِي النَّهْيِ عَنْ نِدَائِهِ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ وَالْمُخَاطَبَةِ لَهُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ ذَمَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ بِنِدَائِهِمْ إيَّاهُ مِنْ وَرَاءِ الْحُجْرَةِ وَبِمُخَاطَبَتِهِ بِلَفْظِ الْأَمْرِ فِي قولهِمْ اُخْرُجْ إلَيْنَا.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ الجرجاني قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْت، لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} نَهَانَا اللَّهُ أَنْ نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فَوْقَ صَوْتِك، وَأَنَا امْرُؤٌ جَهِيرُ الصَّوْتِ، وَنَهَى اللَّهُ الْمَرْءَ أَنْ يُحِبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ وَأَجِدُنِي أُحِبُّ الْحَمْدَ وَنَهَانَا اللَّهُ عَنْ الْخُيَلَاءِ وَأَجِدُنِي أُحِبُّ الْجَمَالَ فَقال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا ثَابِتُ أَمَا تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ حَمِيدًا وَتُقْتَلَ شَهِيدًا وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ؟» فَعَاشَ حَمِيدًا وَقُتِلَ شَهِيدًا يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ.
بَابُ حُكْمِ خَبَرِ الْفَاسِقِ قال اللَّهُ- تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} الْآيَةَ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} قال: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ إلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَأَتَاهُمْ الْوَلِيدُ فَخَرَجُوا يَتَلَقَّوْنَهُ فَفَرِقَ وَرَجَعَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقال: ارْتَدُّوا فَبَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ بَعَثَ عُيُونًا لَيْلًا فَإِذَا هُمْ يُؤَذِّنُونَ وَيُصَلُّونَ، فَأَتَاهُمْ خَالِدٌ فَلَمْ يَرَ مِنْهُمْ إلَّا طَاعَةً وَخَيْرًا فَرَجَعَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ قال: وَقال مَعْمَرٌ: فَتَلَا قَتَادَةُ: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} قال: فَأَنْتُمْ أَسْخَفُ رَأْيًا وَأَطِيشُ أَحْلَامًا، فَاتَّهَمَ رِجْلٌ رَأْيَهُ وَانْتَصَحَ كِتَابَ اللَّهِ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ قال: «وَاَللَّهِ لَئِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي رِجْلٍ يَعْنِي قولهُ: {إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} إنَّهَا لَمُرْسَلَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا نَسَخَهَا شَيْءٌ». قال أَبُو بَكْرٍ مُقْتَضَى الْآيَةِ إيجَابُ التَّثَبُّتِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى قَبُولِهِ، وَالْعَمَلِ بِهِ إلَّا بَعْدَ التَّبَيُّنِ وَالْعِلْمِ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قراءة هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: {فَتَثَبَّتُوا} مِنْ التَّثَبُّتِ، وَ{فَتَبَيَّنُوا}، كِلْتَاهُمَا يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ قَبُولِ خَبَرِهِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ؛ لِأَنَّ قولهُ: {فَتَثَبَّتُوا} فِيهِ أَمْرٌ بِالتَّثَبُّتِ لِئَلَّا يُصِيبَ قَوْمًا بِجَهَالَةِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ الْإِقْدَامِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ لِئَلَّا يُصِيبَ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ.
وَأَمَّا قولهُ: {فَتَبَيَّنُوا} فَإِنَّ التَّبَيُّنَ هُوَ الْعِلْمُ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَقْدُمَ بِخَبَرِهِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ مُطْلَقًا؛ إذْ كَانَ كُلُّ شَهَادَةٍ خَبَرًا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَخْبَارِهِ فَلِذَلِكَ قُلْنَا شَهَادَةُ الْفَاسِقِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُقُوقِ، وَكَذَلِكَ إخْبَارُهُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ إثْبَاتِ شَرْعٍ أَوْ حُكْمٍ أَوْ إثْبَاتِ حَقٍّ عَلَى إنْسَانٍ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى جَوَازِ قَبُولِ خَبَرِ الْفَاسِقِ فِي أَشْيَاءَ.
فَمِنْهَا: أُمُورُ الْمُعَامَلَاتِ يُقْبَلْ فِيهَا خَبَرُ الْفَاسِقِ، وَذَلِكَ نَحْوُ الْهَدِيَّةِ إذَا قال: «إنَّ فُلَانًا أَهْدَى إلَيْك هَذَا» يَجُوزُ لَهُ قَبُولُهُ وَقَبْضُهُ، وَنَحْوُ قولهِ: «وَكَّلَنِي فُلَانٌ بِبَيْعِ عَبْدِهِ هَذَا» فَيَجُوزُ شِرَاؤُهُ مِنْهُ، وَنَحْوُ الْإِذْنِ فِي الدُّخُولِ إذَا قال لَهُ قَائِلٌ: «اُدْخُلْ» لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَالَةُ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ وَيُقْبَلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ خَبَرُ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ، وَقَبِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ بَرِيرَةَ فِيمَا أَهْدَتْ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ يَتَصَدَّقُ عَلَيْهَا، فَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «هِيَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ»، فَقَبِلَ قولهَا فِي أَنَّهُ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَيْهَا وَأَنَّ مِلْكَ الْمُتَصَدِّقِ قَدْ زَالَ إلَيْهَا.
وَيُقْبَلُ قول الْفَاسِقِ وَشَهَادَتُهُ مِنْ وَجْهٍ آخِرَ، وَهُوَ مَنْ كَانَ فِسْقُهُ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ بِاعْتِقَادِ مَذْهَبٍ، وَهُمْ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ فُسَّاقٌ وَشَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى أَمْرُ السَّلَفِ فِي قَبُولِ أَخْبَارِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فِي رِوَايَةِ الْأَحَادِيثِ وَشَهَادَتِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِسْقُهُمْ مِنْ جِهَةِ التَّدَيُّنِ مَانِعًا مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ، وَتُقْبَلُ أَيْضًا شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ،، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ يُقْبَلُ فِيهَا خَبَرُ الْفَاسِقِ، وَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ جُمْلَةِ قوله تعالى: {إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} لِدَلَائِلَ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ فِي الشَّهَادَاتِ، وَإِلْزَامِ الْحُقُوقِ أَوْ إثْبَاتِ أَحْكَامِ الدِّينِ وَالْفِسْقِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ وَالِاعْتِقَادِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ؛ إذْ لَوْ كَانَ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِحَالٍ لَمَا اُحْتِيجَ فِيهِ إلَى التَّثَبُّتِ، وَمِنْ النَّاسِ مِنْ يَحْتَجُّ بِهِ فِي جَوَازِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ وَيَجْعَلُ تَخْصِيصَهُ الْفَاسِقَ بِالتَّثَبُّتِ فِي خَبَرِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ التَّثَبُّتَ فِي خَبَرِ الْعَدْلِ غَيْرُ جَائِزٍ وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ.
بَابُ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ قال اللَّهُ- تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الْحَسَنِ: أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانَ بَيْنَهُمْ تَنَازُعٌ حَتَّى اضْطَرَبُوا بِالنِّعَالِ وَالْأَيْدِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}، قال مَعْمَرٌ: قال قَتَادَةُ: وَكَانَ رَجُلَانِ بَيْنَهُمَا حَقٌّ تَدَارَآ فِيهِ، فَقال أَحَدُهُمَا: لَآخُذَنَّهُ عَنْوَةً؛ لِكَثْرَةِ عَشِيرَتِهِ.
وَقال الْآخَرُ: بَيْنِي وَبَيْنَك رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَنَازَعَا حَتَّى كَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالنِّعَالِ وَالْأَيْدِي وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيِّ قالا: كَانَ قِتَالُهُمْ بِالْعِصِيِّ وَالنِّعَالِ وَقال مُجَاهِدٌ هُمْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ كَانَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ بِالْعِصِيِّ قال أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اقْتَضَى ظَاهِرُ الْآيَةِ الْأَمْرَ بِقِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ وَهُوَ عُمُومٌ فِي سَائِرِ ضُرُوبِ الْقِتَالِ، فَإِنْ فَاءَتْ إلَى الْحَقِّ بِالْقِتَالِ بِالْعِصِيِّ وَالنِّعَالِ لَمْ يُتَجَاوَزْ بِهِ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ تَفِئْ بِذَلِكَ قُوتِلَتْ بِالسَّيْفِ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَغَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَحَدٍ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْقِتَالِ بِالْعِصِيِّ دُونَ السِّلَاحِ مَعَ الْإِقَامَةِ عَلَى الْبَغْيِ وَتَرْكِ الرُّجُوعِ إلَى الْحَقِّ، وَذَلِكَ أَحَدُ ضُرُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَاكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» فَأَمَرَ بِإِزَالَةِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ السِّلَاحِ وَمَا دُونَهُ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ إزَالَتِهِ بِأَيِّ شَيْءٍ أَمْكَنَ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ الْحَشْوِ إلَى أَنَّ قِتَالَ أَهْلِ الْبَغْيِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْعِصِيِّ وَالنِّعَالِ وَمَا دُونَ السِّلَاحِ وَأَنَّهُمْ لَا يُقَاتَلُونَ بِالسَّيْفِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَيْنَا مِنْ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وَقِتَالِ الْقَوْمِ الَّذِينَ تَقَاتَلُوا بِالْعِصِيِّ وَالنِّعَالِ، وَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرُوا؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ تَقَاتَلُوا بِمَا دُونَ السِّلَاحِ، فَأَمَرَ اللَّهُ تعالى بِقِتَالِ الْبَاغِي مِنْهُمَا وَلَمْ يُخَصِّصْ قِتَالَنَا إيَّاهُ بِمَا دُونَ السِّلَاحِ وَكَذَلِكَ نَقول مَتَى ظَهَرَ لَنَا قِتَالٌ مِنْ فِئَةٍ عَلَى وَجْهِ الْبَغْيِ قَابَلْنَاهُ بِالسِّلَاحِ وَبِمَا دُونَهُ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الْحَقِّ، وَلَيْسَ فِي نُزُولِ الْآيَةِ عَلَى حَالِ قِتَالِ الْبَاغِي لَنَا بِغَيْرِ سِلَاحٍ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِقِتَالِنَا إيَّاهُمْ مَقْصُورًا عَلَى مَا دُونَ السِّلَاحِ مَعَ اقْتِضَاءِ عُمُومِ اللَّفْظِ لِلْقِتَالِ بِسِلَاحٍ وَغَيْرِهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قال: «مِنْ قَاتَلَكُمْ بِالْعِصِيِّ فَقَاتِلُوهُ بِالسِّلَاحِ» لَمْ يَتَنَاقَضْ الْقول بِهِ؟ فَكَذَلِكَ أَمْرُهُ إيَّانَا بِقِتَالِهِمْ؛ إذْ كَانَ عُمُومُهُ يَقْتَضِي الْقِتَالَ بِسِلَاحٍ وَغَيْرِهِ، وَجَبَ أَنْ يُجْرَى عَلَى عُمُومِهِ وَأَيْضًا قَاتَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْفِئَةَ الْبَاغِيَةَ بِالسَّيْفِ وَمَعَهُ مِنْ كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ وَأَهْلِ بَدْرٍ مَنْ قَدْ عُلِمَ مَكَانُهُمْ، وَكَانَ مُحِقًّا فِي قِتَالِهِ لَهُمْ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَحَدٌ إلَّا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ الَّتِي قَابَلَتْهُ وَأَتْبَاعُهَا وَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَمَّارٍ: «تَقْتُلُك الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» وَهَذَا خَبَرٌ مَقْبُولٌ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ.
حَتَّى إنَّ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى جَحْدِهِ لَمَّا قال لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَقال: إنَّمَا قَتَلَهُ مَنْ جَاءَ بِهِ فَطَرَحَهُ بَيْنَ أَسِنَّتِنَا رَوَاهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ وَأَهْلُ الشَّامِ، وَهُوَ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ غَيْبٍ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَةِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي إيجَابِ قِتَالِ الْخَوَارِجِ وَقَتْلِهِمْ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ، مِنْهَا حديث أَنَسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلَافٌ وَفُرْقَةٌ قَوْمٌ يُحْسِنُونَ الْقول وَيُسِيئُونَ الْعَمَلَ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ لَا يَرْجِعُونَ حَتَّى يَرْتَدَّ عَلَى فُوْقِهِ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ أَوْ قَتَلُوهُ يَدْعُونَ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسُوا مِنْهُ فِي شَيْءٍ مَنْ قَتَلَهُمْ كَانَ أَوْلَى بِاَللَّهِ مِنْهُمْ» قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا سِيمَاهُمْ؟ قال: «التَّحْلِيقُ».
وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ خيثمة عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قال: سَمِعْت عَلِيًّا يَقول: إذَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَأَنْ أَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُنِي الطَّيْرُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنَنَا فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ، وَإِنِّي سَمِعْته صلى الله عليه وسلم يَقول: «يَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقولونَ مِنْ خَيْرِ قول الْبَرِّيَّةِ لَا يُجَاوِزُ إيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، فَإِنْ لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وُجُوبِ قِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ بِالسَّيْفِ إذَا لَمْ يَرْدَعْهَا غَيْرُهُ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ رَأَوْا قِتَالَ الْخَوَارِجِ وَلَوْ لَمْ يَرَوْا قِتَالَ الْخَوَارِجِ وَقَعَدُوا عَنْهُمْ لَقَتَلُوهُمْ وَسَبَوْا ذَرَارِيَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَاصْطَلَمُوهُمْ؟ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ جَلَسَ عَنْ عَلِيٍّ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ سَعْدٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَابْنُ عُمَرَ قِيلَ لَهُ: لَمْ يَقْعُدُوا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا قِتَالَ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قُعُودُهُمْ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا الْإِمَامَ مُكْتَفِيًا بِمَنْ مَعَهُ مُسْتَغْنِيًا عَنْهُمْ بِأَصْحَابِهِ، فاستجازوا الْقُعُودَ عَنْهُ لِذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَدْ قَعَدُوا عَنْ قِتَالِ الْخَوَارِجِ لَا عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا قِتَالَهُمْ وَاجِبًا لَكِنَّهُ لَمَّا وَجَدُوا مَنْ كَفَاهُمْ قَتْلَ الْخَوَارِجِ اسْتَغْنَوْا عَنْ مُبَاشَرَةِ قِتَالِهِمْ؟ فَإِنْ احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «سَتَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي وَالْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ» قِيلَ لَهُ: إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْفِتْنَةَ الَّتِي يَقْتَتِلُ النَّاسُ فِيهَا عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا وَعَلَى جِهَةِ الْعَصَبِيَّةِ وَالْحَمِيَّةِ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ مَعَ إمَامٍ تَجِبُ طَاعَتُهُ، فَأَمَّا إذَا ثَبَتَ أَنَّ إحْدَى الْفِئَتَيْنِ بَاغِيَةٌ وَالْأُخْرَى عَادِلَةٌ مَعَ الْإِمَامِ فَإِنَّ قِتَالَ الْبَاغِيَةِ وَاجِبٌ مَعَ الْإِمَامِ وَمَعَ مَنْ قَاتَلَهُمْ مُحْتَسِبًا فِي قِتَالِهِمْ فَإِنْ قالوا: قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: «قَتَلْته وَهُوَ قَدْ قال لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ إنَّمَا يُرَدِّدُ ذَلِكَ مِرَارًا»، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقَاتَلَ مَنْ قال لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَا يُقْتَلَ قِيلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُقَاتَلُونَ وَهُمْ مُشْرِكُونَ حَتَّى يَقولوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، كَمَا قال صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقولوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قالوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا».
فَكَانُوا إذَا أَعْطَوْا كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ أَجَابُوا إلَى مَا دُعُوا إلَيْهِ مِنْ خَلْعِ الْأَصْنَامِ وَاعْتِقَادِ التَّوْحِيدِ.
وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنْ يَرْجِعَ الْبُغَاةُ إلَى الْحَقِّ فَيَزُولَ عَنْهُمْ الْقِتَالُ؛
لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يُقَاتَلُونَ عَلَى إقَامَتِهِمْ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ، فَمَتَى كَفُّوا عَنْ الْقِتَالِ تُرِكَ قِتَالُهُمْ، كَمَا يُقَاتَلُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى إظْهَارِ الْإِسْلَامِ فَمَتَى أَظْهَرُوهُ زَالَ عَنْهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ وَالْمُحَارِبِينَ يُقَاتَلُونَ وَيُقْتَلُونَ مَعَ قولهِمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ.
بَابُ مَا يُبْدَأُ بِهِ أَهْلُ الْبَغْيِ مَا يُبْدَأُ بِهِ أَهْلُ الْبَغْيِ قال اللَّهُ- تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} قال أَبُو بَكْرٍ أَمَرَ اللَّهُ عِنْدَ ظُهُورِ الْقِتَالِ مِنْهُمْ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ أَنْ يُدْعَوْا إلَى الصَّلَاحِ وَالْحَقِّ وَمَا يُوجِبُهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالرُّجُوعُ عَنْ الْبَغْيِ، وقوله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} يَعْنِي- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: إنْ رَجَعَتْ إحْدَاهُمَا إلَى الْحَقِّ وَأَرَادَتْ الصَّلَاحَ وَأَقَامَتْ الْأُخْرَى عَلَى بَغْيِهَا وَامْتَنَعَتْ مِنْ الرُّجُوعِ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَأَمَرَ تعالى بِالدُّعَاءِ إلَى الْحَقِّ قَبْلَ الْقِتَالِ، ثُمَّ إنْ أَبَتْ الرُّجُوعَ قُوتِلَتْ.
وَكَذَا فَعَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ بَدَأَ بِدُعَاءِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ إلَى الْحَقِّ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَبَوْا الْقَبُولَ قَاتَلَهُمْ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اعْتِقَادَ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْبَغْيِ لَا يُوجِبُ قِتَالَهُمْ مَا لَمْ يُقَاتِلُوا؛ لِأَنَّهُ قال: {فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ}، فَإِنَّمَا أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ إذَا بَغَوْا عَلَى غَيْرِهِمْ بِالْقِتَالِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مَعَ الْخَوَارِجِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ حِينَ اعْتَزَلُوا عَسْكَرَهُ بَعَثَ إلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَدَعَاهُمْ، فَلَمَّا أَبَوْا الرُّجُوعَ ذَهَبَ إلَيْهِمْ فَحَاجَّهُمْ فَرَجَعَتْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ وَأَقَامَتْ طَائِفَةٌ عَلَى أَمْرِهَا، فَلَمَّا دَخَلُوا الْكُوفَةَ خَطَبَ فَحَكَمَتْ الْخَوَارِجُ مَنْ نَوَاحِي الْمَسْجِدِ وَقالتْ: لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ فَقال عَلِيٌّ: كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ، أَمَا إنَّ لَهُمْ ثَلَاثًا: أَنْ لَا نَمْنَعَهُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَهُ، وَأَنْ لَا نَمْنَعَهُمْ حَقَّهُمْ مِنْ الْفَيْءِ مَا دَامَتْ أَيْدِيهمْ مَعَ أَيْدِينَا، وَأَنْ لَا نُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُونَا.
بَابُ الْأَمْرِ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِ الْبُغَاةِ قال أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، فَقال مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ: لَا يَكُونُ غَنِيمَةً وَيُسْتَعَانُ بِكُرَاعِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ عَلَى حَرْبِهِمْ، فَإِذَا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا رُدَّ الْمَالُ عَلَيْهِمْ وَيُرَدُّ الْكُرَاعُ أَيْضًا عَلَيْهِمْ إذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ الْبُغَاةِ أَحَدٌ، وَمَا اُسْتُهْلِكَ فَلَا شَيْءَ فِيهِ وَذَكَرَ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْجَرَّاحِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قال: «مَا وُجِدَ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْبَغْيِ مِنْ كُرَاعٍ أَوْ سِلَاحٍ فَهُوَ فَيْءٌ يُقْسَمُ وَيُخَمَّسُ، وَإِذَا تَابُوا لَمْ يُؤْخَذُوا بِدَمٍ وَلَا مَالٍ اسْتَهْلَكُوهُ».
وَقال مَالِكٌ: «مَا اسْتَهْلَكَهُ الْخَوَارِجُ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ ثُمَّ تَابُوا لَمْ يُؤْخَذُوا بِهِ، وَمَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ رُدَّ»، وَهُوَ قول الْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ.
وَقال الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: إذَا قُوتِلَ اللُّصُوصُ الْمُحَارِبُونَ فَقُتِلُوا وَأُخِذَ مَا مَعَهُمْ فَهُوَ غَنِيمَةٌ لِمَنْ قَاتَلَهُمْ بَعْدَ إخْرَاجِ الْخُمُسِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ يُعْلَمُ أَنَّهُمْ سَرَقُوهُ مِنْ النَّاسِ.
قال أَبُو بَكْرٍ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ- كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ- فِي ذَلِكَ، فَرَوَى فِطْرُ بْنُ خَلِيفَةَ عَنْ مُنْذِرِ بْنِ يَعْلَى عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةَ قال قَسَمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْجَمَلِ فَيْأَهُمْ بَيْنَ أَصْحَابِهِ مَا قُوتِلَ بِهِ مِنْ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فَاحْتَجَّ مَنْ جَعَلَهُ غَنِيمَةً بِهَذَا الْحديث، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ غَنِيمَةٌ؛ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَسَمَ مَا حَصَلَ فِي يَدِهِ مِنْ كُرَاعٍ أَوْ سِلَاحٍ لِيُقَاتِلُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا وَلَمْ يُمَلِّكْهُمْ ذَلِكَ عَلَى مَا قال مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ.
وَقَدْ رَوَى عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن الدُّوَلِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْخَوَارِجَ نَقَمُوا عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، فَحَاجَّهُمْ بِأَنْ قال لَهُمْ: أَفَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ ثُمَّ تَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا تَسْتَحِلُّونَ مِنْ غَيْرِهَا؟ فَلَئِنْ فَعَلْتُمْ لَقَدْ كَفَرْتُمْ.
وَرَوَى أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الصَّلْتِ بْنِ بهرام عَنْ أَبِي وَائِلٍ قال: سَأَلْته أَخَمَّسَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمْوَالَ أَهْلِ الْجَمَلِ؟ قال: لَا وَقال الزُّهْرِيُّ: وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُتَوَافِرُونَ، وَأَجْمَعُوا أَنَّ كُلَّ دَمٍ أُرِيقَ عَلَى وَجْهِ التَّأْوِيلِ أَوْ مَالٍ اُسْتُهْلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّأْوِيلِ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ.